فصل: تفسير الآيات (46- 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (36- 45):

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} يعني المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم اللّه على سمعه فلا يصغي إلى الحق {والموتى} يعني الكفار {يَبْعَثُهُمُ الله} مع الموتى {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقَالُواْ} يعني الحرث بن عامر وأصحابه. {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} حالهم في نزولها {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} على التأكيد، كما يقال: أخذت بيدي، مشيت برجلي ونظرت بعيني.
{إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} يعني بعضهم من بعض والناس أمة والطير أمة والسباع أمة والدواب أمة، وقيل: إلاّ أمم أمثالكم جماعات أمثالكم.
وقال عطاء: أمثالكم في التوحيد ومعرفة اللّه وقيل: إلاّ أمم أمثالكم في التصور والتشخيص {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} يعني في اللوح المحفوظ {ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.
قال ابن عباس، والضحّاك: حشرها: موتها.
وقال أبو هريرة: في هذه الآية يحشر اللّه الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطيور وكل شيء فيبلغ من عذاب اللّه يومئذ أن يأخذ الجماء من القرناء ثم يقول: كوني تراباً فعند ذلك {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40].
وقال عطاء: فإذا رأوا بني آدم وما فيه من الجزية، قلت الحمد للّه الذي لم يجعلنا مثلكم فلا جنة نرجو ولا ناراً نخاف، فيقول اللّه عز وجل لهم كونوا تراباً فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراباً.
وعن أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ انتطحت عنزان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتدرون فيما إنتطحا»قالوا: لا ندري، قال: «لكن اللّه يدري ويقضي بينهما» {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} محمد والقرآن {صُمٌّ} لا يسمعون الخبر {وَبُكْمٌ} لا يتكلمون، الخبر {فِي الظلمات} في ظلالات الكفر {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} يموتون على كفرهم {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} قائم وهو الإسلام {قُلْ أَرَأَيْتُكُم} أي هل رأيتم والكاف فيه للتأكيد، {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله} يوم بدر وأحد والأحزاب وحنين، {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} في صرف العذاب، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ثم قال: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} تخلصون {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ} تتركون {مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} فكفروا {فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء} الفقر والجوع {والضرآء} المرض والزمانة {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} يؤمنون ويتوبون ويخضعون ويخشعون.
{فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا} عذابنا {تَضَرَّعُواْ} فآمنوا فكشف عنهم {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعصية {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي أنكروا ما عظوا وأمروا به {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي بدلناهم مكان البلاء والشدة بالرخاء في العيش والصحة في الأبدان {حتى إِذَا فَرِحُواْ} أعجبوا {بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} فجأة امن ما كانوا بالعجب ما كانت الدنيا لهم، {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} يئسون من كل خير.
قال السدي: هالكون، ابن كيسان: خاضعون، وقال الحسن: منصتون.
وقرأ عبد الرحمن السلمي: مبلسون بفتح اللام مفعولا بهم أي مؤيسون. وأصل الإبلاس الإطراق من الحزن والندم.
وقال مجاهد: الإبلاس الفضيحة. وقال: إبن زيد المبلس الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه.
قال جعفر الصادق: فلما نسوا ما ذكروا به من التعظيم فتحنا عليهم أبواب كل شيء من النعم حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الترفيه والتنعيم جاءتهم بغتة إلى سوء الجحيم {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم} قال السدي: أصل القوم.
قال قطرب: أخذهم يعني استؤصلوا وأهلكوا {الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} على إهلاكهم.
روى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت اللّه أعطى العباد ما يشاؤن على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم». ثم تلا هذه الآية {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} الآية.

.تفسير الآيات (46- 58):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} فذهب بها {وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ} وطبع عليها يعني لا يفقهوا قولاً ولا يبصروا حجة {مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ} يعني بما أخذ منكم {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ} نبين لهم {الآيات ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} يعرضون عنها مكذبين بها {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً} فجأة {أَوْ جَهْرَةً} معاينة ورؤية على ما أشركوا {هَلْ يُهْلَكُ} بالعذاب {إِلاَّ القوم الظالمون} المشركون {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} العمل {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} حين يخاف أهل النار {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} إذا حزنوا {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بمحمد والقرآن {يَمَسُّهُمُ} يصيبهم {العذاب بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} يرتكبون {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله} يعني رزق اللّه {ولا أَعْلَمُ الغيب} ما يخفى عن الناس {ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فتنكرون قولي وتجحدون أمري {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} وذلك غير منكر ولا مستحيل في العقل مع وجود الدلائل والحجة البالغة {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير} الكافر والمؤمن والضال والمهتدي {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} لا يستويان {وَأَنذِرْ} خوّف {بِهِ} بالقرآن.
قال الضحّاك: به أي باللّه {الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا} يبعثوا ويحيوا {إلى رَبِّهِمْ} وقيل: يعلمون أن يحشروا لأن خوفهم بما كان من عملهم {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ} من دون اللّه {وَلِيٌّ} يعني قريب ينفعهم {وَلاَ شَفِيعٌ} يشفع لهم {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي} الآية، قال سليمان، وخباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية.
جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصين الفزاري وهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المسلمين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فقالوا: يا رسول اللّه لو جلست في صدر المجلس ويغيب عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكانت عليهم جباب من صوف لم يكن عليهم غيرها لجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بطارد المؤمنين» قالوا: فأنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم وإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: «نعم»، قالوا: أكتب لنا بذلك كتاباً، قال: فدعانا لصحيفة ودعا علياً ليكتب.
قال: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل عليه السلام بقوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي} إلاّ بشيء فألقى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: «سلام عليكم {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة}» [الأنعام: 54] فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} الآية، قال: وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعمد وندنوا منه حتى كادت رِكبنا تمسّ ركبه فإذا بلغ الساعة التي يقوم قمنا وتركناه حتى يقوم وقال: «الحمد للّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي, معكم المحيا ومعكم الممات».
وقال الكلبي: قالوا له: إجعل لنا يوماً ولهم يوم، قال: «لا أفعل»، قالوا: فاجعل المجلس واحداً وأقبل إلينا وولّ ظهرك عليهم فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وروى الأشعث بن سواد عن إدريس عن عبد اللّه بن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء أهؤلاء الذين قال: منّ اللّه عليهم من بيننا، أطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم إتبعناك، فأنزل اللّه تعالى {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية، قال: بها قد قالت قريش: لولا بلال وابن أم عبد لتابعنا محمداً فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية.
وقال عكرمة: «جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن أمية ومطعم بن عدي والحرث بن نوفل وقرظة ابن عبد وعمرو بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا: ياأبا طالب لو أن ابن أخيك محمداً يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنهم عبيدنا كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتّباعنا إيّاه. وتصديقنا له فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كتموه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون فنزلت من قولهم هذه الآية فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب واعتذر من مقالته».
وقال جبير بن نفيل: إن قريشاً أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت: أرسلت إلينا فاطرد هؤلاء السقاط عنك فنكون أصحابك فأنزل اللّه تعالى {وَلاَ تَطْرُدِ} الآية.
قال ابن عباس: يدعون ربهم يعني يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة بالغداة والعشي يعني صلاة الصبح وصلاة العصر، وذلكإن ناساً من الفقراء كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم من الأشراف: إذا صلّينا فأخّر هؤلاء وليصلوا خلفنا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية {وَلاَ تَطْرُدِ الذين} الآية.
وقال حمزة بن عيسى: دخلت على الحسن فقلت له: يا أبا سعيد أرأيت قول اللّه تعالى {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ}، قال: لا ولكنهم المحافظون على الصلوات في الجماعة.
وقال مجاهد: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب رضي الله عنه فلما سلم الإمام، ابتدر الناس القاص، فقال سعيد ما أسرع الناس إلى هذا المجلس.
فقال مجاهد: فقلت: يتأوّلون قول اللّه عز وجل ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، فأراد في هذا هو إنما ذلك في الصلاة التي انصرفا عنها الآن، وقلنا إنهم يذكرون ربهم.
وقال أبو جعفر: يعني يقرأون القرآن {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} جواب لقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} وقوله: {فَتَكُونَ} جواب لقوله ولا تطرد لا أحد هو جواب نفي واللّه جواب النهي {مِنَ الظالمين} من الضارين لنفسك بالمعصية والنفس الطرد في غير موضعه {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} التعريف الوضيع والعرفي بالمولى والغني الآية {ليقولوا} يعني الأشراف الأغنياء {أهؤلاء} يعني الفقراء والضعفاء {مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} قال الكلبي: كان الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد آمن قبله حمى أنفاً أن يسلم ويقول: سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} يعني المؤمنين وهذا جواب لقوله: {أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} وقيل: أليس اللّه أعلم بالشاكرين، من يشكر على الإسلام إذا هديته له.
العلاء بن بشير عن أبي بكر الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في عصابة فيها ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم يستر بعضاً من العري وقارئ يقرأ علينا ونحن نستمع إلى قراءته فقال النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام علينا فلما رأى القارئ سكت، فسلم وقال: «ما كنتم تصنعون؟» قلنا: يا رسول اللّه كان قارئ يقرأ علينا ونحن نستمع إلى قراءته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحمد للّه الذي جعل في أمتي من أمرت أن أُصبر نفسي معهم» ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ثم قال «هكذا بيده هكذا»، فحلق القوم وبرزت وجوههم فلم يعرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منهم أحداً وكانوا ضعفاء المهاجرين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبشروا صعاليك المهاجرين بالفوز التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء المؤمنين بنصف يوم مقداره خمس مائة سنة».
هشام بن سليمان عن أبي يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الفقراء إن اللّه رضي لي أن أتأسى بمجالسكم وأن اللّه معنا فقال: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} [الكهف: 28] فإنها مجالس الأنبياء قبلكم والصالحين».
معاوية بن مرّة عن عائذ بن عمرو: أن سلماناً وصهيباً وبلالا كانوا قعدوا فمر بهم أبو سفيان فقالوا له: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو اللّه مأخذها بعد. فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه: تقولون هذا لشيخ قريش وسيّدها ثم أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا بكر لعلك أغضبتهم إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك»فوقع أبو بكر فيهم فقال: لعلي أغضبتكم؟ قالوا: لا يا أبا بكر يغفر اللّه لك.
{وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} إختلفوا فيما نزلت هذه الآية. فقال عكرمة: نزلت في الذين نهى اللّه عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام».
وقال الكلبي: لما نزلت هذه الآية {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} جاء عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فاعتذر إليه من مقالته واستغفر اللّه تعالى منها، وقال: يا رسول اللّه ما أردت بهذا إلاّ الخير فنزل في عمر رضي الله عنه {وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} الآية.
وقال عطاء: نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة وصهيب بن عمير وعمر وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر، والأرقم بن الأرقم وأبي سلمة بن الأسد رضي اللّه عنهم أجمعين.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه عنه: «أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجال فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً كثيرة عظيمة فسكت عنهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأنزل اللّه على الرجال الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ}» قال مجاهد: لا يعلم حلالاً من حرام ومن جهالته ركب الأمر وكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل، وقيل: جاهل بما يورثه ذلك الذنب، يقال: جهل حين آثر المعصية على الطاعة {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} فرجع عن دينه {وَأَصْلَحَ} عمله، وقيل: أخلص توبته {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} واختلف القراء في قوله تعالى: {أَنَّهُ} الكوفيون بفتح الألف منهما جميعاً. إبن كثير والأعمش وابن عمر وحمزة والكسائي على الإستئناف، ونصبها الحسن وعاصم ويعقوب بدلاً من رحمة، وفتح أهل المدينة الأولى على معنى وكتب إنّه وكسروا الثانية على الاستئناف لأن ما بعدها لا يخبر أبداً {وَكَذَلِكَ} أي هكذا، وقيل: معناه وفصلنا لك في هذه السورة والآية.
وجاء في أعلى المشروح في المنكرين من كذلك {نفَصِّلُ الآيات} أي نميز ونبين لك حجتنا وأدلتنا في كل من ينكر أهل الباطل {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} مرّ رفع السبيل ومعناه وليظهر وليتضح طريق المجرمين. يقال بأن الشيء وأبان وتبيان وتبين إذا ظهر ووضح والسبيل يذكر ويؤنث، فتميم تذكر، وأهل الحجاز يؤنثه، ودليل المذكر قوله عزّ وجل {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} ودليل التأنيث قوله تعالى: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً} [آل عمران: 99] وقوله عز وجل: {قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] ولذلك قرأ ولتستبين بالياء والتاء، وقرأ أهل المدينة ولتستبين بالتاء، سبيل بالنصب على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم عناه ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين، يقال واستبين الشيء وتبينته إذا عرفته {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ} في عبادة الأوثان وطرد بلال وسلمان {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين} يعني إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق وسلكت غير الهدى.
وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رجاء: قد ضللت، بكسر اللام وهما لغتان ضلّ يضلّ مثل قلّ يقلّ. وضلّ يضلّ مثل ملّ يملّ، والأولى هي الأصح والأفصح لأنها لغة أهل الحجاز {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ} بيان وبرهان وبصيرة وحجة {مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ} أي بربي {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} يعني العذاب، نزلت في النضر بن الحرث {إِنِ الحكم} ما القضاء {إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الحق} قرأ أهل الحجاز، وعاصم يقص الحق بالصاد المشددة أي يقول الحق قالوا: لأنه مكتوب في جميع المصاحف بغير ياء ولأنه قال الحق فإنما يقال قضيت بالحق. وقرأ الباقون: بالضاد أي يحكم بالحق دليله قوله: {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} والفصل جلب القضاء، والقرّاء إنما حذفوا الياء للإستثقال ثم [...] كقوله: {صَالِ الجحيم} [الصافات: 163] وقوله: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ} [الرعد: 39] و{فَمَا تُغْنِ النذر} [القمر: 5] {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] ونحوها وحذفوا الباء من الحق لأنه صفة المصدر فكأنه يقضي القضاء الحق.
{قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي} بيدي {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} هو العذاب {لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي فرغ من العذاب وأهلكتم {والله أَعْلَمُ بالظالمين}.